السبت، 30 يناير 2010

قواعد التفكير المنهجي



إن المتأمل لواقع الأفكار وتدافعها في الساحة العربية يجد أنه بالرغم من اختلاف مشارب الناس، وتنوع ثقافاتهم، وتعدد توجهاتهم، تبقى السمة الغالبة عليهم هي قلة المنهجية، وضعف الحيادية، وندرة الموضوعية، مما يجعل خطاباتهم في كثير من الأحيان تتسم بكونها خطابات غوغائية دوغمائية، ترى الحق حقا وتجتنبه، وترى الباطل باطلا فتنتصر له، غير أنه وبالعودة إلى كتاب الله العظيم واستنطاق آياته الكريمة يمكننا تلمس مجموعة من القواعد والقوانين التي تؤسس لتفكير علمي منهجي يصل بالبشرية إلى بر الأمان، ويحميها من كل انزلاق أو انحراف أو قصور أوطغيان.
تحكيم العقل:
العقل من أعظم النعم التي أنعم الله بها على بني البشر، مما يعني أن عدم تحكيمه في المواقف والأفكار إنما هو تعطيل لأعظم قدرة أكرم الله بها الإنسان، فإن فعل ذلك أصبح مثله مثل باقي الكائنات غير العاقلة:"إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" فالتفكير المنهجي تفكير منطقي سليم، يبتعد عن الانفعالية، والعاطفية المفرطة، يبني مواقفه على حقائق عقلية، أو تجارب واقعية، أو أشياء مادية حسية قال تعالى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً
الإعتماد على العلم والبرهان:
 التفكير المنهجي تفكير يقوم على العلم، بعيدا عن الجهل أو الظن والتخمين قال الله تعالى:" قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ" وصاحب الحجة القوية والبرهان الجلي هو الذي يسمع لقوله، ويتبع أمره، قال تعالى:" قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" وقد جمع الله بينهما فقال عز من قائل:" اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" . ومع الاعتماد على هذا النوع من التفكير، يتم تجنب الكذب و اللعب بالعقول والافتراء على الناس: "وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"
الحذر من اتباع الهوى:
ويعني الهوى عدم وجود معيار يرجع إليه، ولا ضابط يعول عليه، وإنما الأمور متروكة للتشهي، ومزاج الفرد ورغبته الشخصية، فيؤدي هذا إلى الوقوع في التيه والضلال"ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى" ولا تنفع الإنسان في مثل هذه الحالة الأدلة والحجج والبراهين مهما كانت دقيقة وعلمية وواضحة:"وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ" ، فهم عندهم حواس ولكنها حواس معطلة، لاتؤدي وظيفتها التي خلقت من أجلها فأضحت كأنها غير موجودة:" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" يستمع ولكنه لا ينصت، يرى ولكنه لايبصر، تطرق عقله حقائق ولكنه يوصد دونها الأبواب"أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ"
وضع ميزان ثابت يحكم به للجميع:
 بحيث لا يكون هناك تطفيف في الميزان، بأن يتم الحكم لبعض الناس بميزان ولغيرهم بميزان آخر، وقد حذر الإسلام من هذه الظاهرة فقال تعالى:"ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" و الالتزام بذلك مع العدو والصديق" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" وإذا جار الناس عليكم، وطغوا وتعدوا، فإن ذلك لا يجيز لكم أن تظلموهم وتجوروا عليهم بدعوى المعاملة بالمثل "والبادي أظلم" قال تعالى:" وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ" .
التعامل مع الناس بإيجابياتهم وسلبياتهم:
الناس يصيبون ويخطئون، ولذلك يجب التعامل معهم على هذا الأساس، "فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية" "فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ" وقد اكتشف الرسول أن أحد الصحابة أرسل أخبار المسلمين وخططهم العسكرية إلى أعدائهم، مما يعتبر خيانة عظمى، يستحق عليها أقصى العقوبة، لكن الرسول ص قال لعمر بعد أن أراد قتله:"وما يدريك لعل الله اطلع على قلوب أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم" فقد اعتبر أن شهود الرجل لغزوة بدر أمر عظيم، أعظم من هذا الجرم الذي اقترفه.
التريث وعدم الاستعجال في الحكم:
سواء كان هذا الحكم بالإيجاب أو بالسلب، وسواء كان في قضية، أو على فكرة، أو في حق شخص أو مجموعة، فمن قواعد التفكير المنهجي أخذ الوقت الكافي لدراسة الأمر وتمحيصه، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً" لأن ذالك يؤدي إلى الوقوع في الظلم والعدوان على الناس، بل وفي حق الشخص نفسه، بأن يصبح من النادمين، حيث لاينفع الندم، قال سبحانه"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"
فيجب إذا أن يحرص المرأ على الدراسة الوافية للقضية التي يريد أن يتخذ بشأنها موقفا معينا، أو ما يسميه القرآن الكريم الإحاطة بهاعلما قال تعالى:" أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً .
ترك هامش للخطأ، و مساحة للحوار والنقاش، وفرصة للمراجعة، ومكان للتصحيح
الفكر البشري، قاصر لأن الكمال لله وحده، ولذلك يرفض التفكير المنهجي كل دعوى فيها حقائق مطلقة، ويحبذ عوض ذلك الحقائق النسبية، ولقد أرسى القرآن الكريم دعائم هذا المنهج كما في قوله تعالى:"وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" بمعنى أن المسافة بيننا وبينكم من جهة، وبين الحقيقة من جهة أخرى هي مسافة متساوية، وهذا ما جعل علماء الإسلام أكثر تسامحا فيما بينهم رغم الخلافات الكثيرة والعميقة فيما بينهم، مما جعل أحدهم يقول: هذا أفضل ما لدينا فمن جاءنا بأحسن منه اتبعناه. والتفريط في هذا هو الذي جعل الخوارج يكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم، ويقتلون أمير المؤمنين، وابن عم الرسول وزوج ابنته، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا.
تجنب الإطلاق والتعميم:
يبتعد الفكر المنهجي عن الإطلاقات والتعميمات؛ فليس كل ما يلمع ذهبا، وليس كل من هو معنا قديس، وليس كل من هو مخالف لنا إبليس، فأهل الكتاب الذين يجعلون لله الولد، ويكتبون الكتاب بأيديهم، وينسبونه إلى الله، إلى غير ذلك من الجرائم الفظيعة "لَيْسُواْ سَوَاء" فمنْهم"أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" وَمِنْهم"مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ" و"منْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ" وقد وَدَّت طآئِفَة منْهم" لَوْ يُضِلُّونَكُمْ" و" يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً" وليس كلهم، والذِينَ يُنَادُونَ الرسول" مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" وليس كلهم، والخمر والميسر وهما من أخطر الخبائث فيهما"منافع للناس" والحديد على الرغم من أن "فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد" ففيه أيضا "مَنَافِعُ لِلنَّاس" .

Chtaiba_jamal@hotmail.com





ليست هناك تعليقات: